حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب :ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة..
الأجواء السودانية مع ذكرى اندلاع حرب 15 ابريل 2023 مشغولة بروايات متصادمة حول حقيقة ما جرى في ذلك الصباح العنيف. و القياس في رواية الأحداث ليس شهودها ومصادرها بل المواقف السياسية.. كل طرف يحاول أن ينسج رواية تخدم انتماءه وبطاقته، فتكون النتيجة أن يتحول التاريخ – القريب جدا- إلى بازار يعرض الألوان والأماني السياسية مزركشة بحكاوي الرصاصة الأولى.
ما الذي حدث؟ الإجابة سهلة حتى قبل سرد الوقائع، فالاجابة في كنف سؤال مضاد، لو عادت الأيام و منح القدر الفريقين العسكريين المتقاتلين، والفرقاء السياسيين المتشاكسين، فرصة تغيير التاريخ، تماما مثل ما يعمل فني “المونتاج” في اعادة تنسيق لقطات الفيلم ليبدو في أفضل وجه يرضاه، فما الذي تتوقعه :
هل تحافظ الأطراف العسكرية والسياسية على نفس الفيلم؟ تماما كما حدث منذ صباح السبت 15 أبريل 2023 حتى اليوم؟
أم تعدل فيه بعض اللقطات والأجزاء دون أن تخل بسياقه الذي أفضى للواقع الذي نعيشه اليوم بعد سنة من اندلاع الحرب؟
أم تلغي الفيلم كله، وتنتج آخر بديلا له؟
ضع نفسك في موقع قائد الجيش وقيادته، ثم قائد الدعم السريع وقيادته، ثم قيادات الأحزاب، ثم قيادات التحالفات مثل الحرية والتغيير المجلس المركزي والكتلة الديموقراطية وغيرها.
وأجب على الأسئلة السالف ذكرها، هل يتمنى أي طرف أن لو كان قادرا على تغيير مواقفه خلال الفترة التي نفخ فيها في جمرة الحرب، ثم ساعة الصفر وما تلاها من وقائع انتجب الراهن البئيس الذي يترجعه الشعب السودان كله؟
الاجابة على هذا السؤال تمنح شهادة صادقة لميلاد الحرب و يوميات نشأتها الباكرة الى أن شبت عن الطوق، طوق التحكم الداخلي.
لنبدأ باعادة المونتاج..
و نعيد شريط الأحداث إلى الوراء من اللحظة التي برزت فيها عبارة (الإطاري أو الحرب)، فهي دالة مفتاحية تحدد السياق الذي اعتمد عليه كاتب القصة في روايته، قبل أن تتحول إلى سيناريو ثم فيلم اكتمل تصويره قبل سنة كاملة.
عبارة (الاطاري أو الحرب) والتي نطق بها أكثر من شخص في مناسبات مختلفة بلغة تختلف في التفاصيل وتتفق في المضمون، تحدد ركين مهمين في القصة. الأول؛ “الاطاري” و الثاني “الحرب”.
“الاطاري” مهما كان الخلاف حوله فهو مجرد “وثيقة اتفاق” ذات بنود محددة قابلة للتداول والاختلاف والشد والجذب بل و تبادل اللكمات بقبضة اليد والركلات بالقدم والعض بالأسنان، بل وحتى الالغاء ولكن في اطار مدني بين المكونات السياسية ، نقطة سطر جديد.
لا علاقة لها بالحرب والقتل والسحل والانتهاكات والاغتصابات و كل الجرائم التي أفجعت السودانيين في سودانتيهم.
فـ”الاطاري” هو سليل أحداث ثم سجال سياسي إلى أن وصل ذروة المشهد صباح 5 ديسمبر 2022 بالتوقيع عليه في سياق المسير نحو تحويله إلى اتفاق نهائي.
ولو تولي أسوأ مؤلف روايات كتابة قصة بعنوان “الاطاري” فلن يقذف بنهايتها في بحيرة الدماء والأشلاء التي أنجلها الواقع المرير.
معنى ذلك أن المؤلف ذاته لن يجعل مسار القصة أبدا يسير و لو على مسافة من خط درامي يقوده إلى حتمية نقطة الافتراق في الخيار بين (الاطاري او الحرب).
ثم؛ ما العلاقة بين “الاطاري” وهو مجرد وثيقة اتفاق والحرب وهي عمل مجنون كارثي لا يتمناه أحد؟ لماذا أصبح الخيار بين اثنين لا علاقة عضوية بينهما؟
كل هذه الأسئلة طرحتها لك لتدرك أن الخيار لم يكن أبدا بين “الاطاري” و “الحرب” كما سارت بذلك ركبان العبارة، بل كانت بين “الاطاري أو الانقلاب”، وهي أكثر معادلة موضوعية قابلة للتصديق.
لم تكن هناك حرب ولا يحزنون، و لكن كان هناك انقلاب أبيض لن يأخذ من زمن المشاهد لتلفزيون السودان أكثر من زمن المارشات العسكرية ثم البيان رقم واحد.. و يتواصل صوم ما تبقى من رمضان والاستعداد لعيد الفطر.
والمدهش، أن الواقع سيصبح “الاطاري أو لا اطاري” لأن الانقلاب كان أول ما ينقلب عليه هو “الاطاري” نفسه.