حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب : خطاب الجنرال ياسر العطا..
فجأة في مساء يوم الاثنين 4 يوليو 2022 أطل بدون سابق تمهيد الفريق أول عبد الفتاح البرهان على شاشة التلفزيون الرسمي وعلى عجل ألقى بيانا لم يستغرق قراءته أكثر من ثلاث دقائق.. خلاصته أن القوات المسلحة توافق على تسلييم الحكم كاملا للمدنيين، في المستوى السيادي والوزاري، و تعود لممارسة مهامها في حراسة ثغور الوطن، شريطة ان تتفق القوى السياسية على تشكيل الحكومة و المجلس السيادي.
كانت الكلمات واضحة والالتزام أيضا، وكتبت مباشرة في اليوم التالي ادعو القوى السياسية لاختبار هذا التعهد بالتوافق على رئيس وزراء يتولى تشكيل الحكومة.. ولتسهيل المهمة كتبت ناصحا عدم اضاعة الوقت فالمطلوب “حكومة تسليم وتسلم”، تتولى استلام السلطة من “المكون العسكري” أولا وبعدها سيكون هناك ما يكفي من الوقت لاعادة النظر في التشكيلة.
ولكن.. وما أفجع “لواكن” البلد “الملكون” منذ استقلاله..!!
بدأت القوى السياسية تتبارى في تفويت الفرص السهلة، ليس لخطأ التقديرات بل لخطل المطامع في الاستئثار بالسلطة..
أول بيان صدر من قوى الحرية والتغيير ردا على عرض البرهان، اتهمه بأنه يمارس “الالتفاف” على القوى المدنية، و أنه ينوي السيطرة على حكومة ضعيفة، لأنه عندما يغادر القصر الجمهوري إلى القيادة العامة سيأخذ معه وزارة الخارجية و بنك السودان المركزي والهيئة القومية للاتصالات!!!!
كيف سيأخذ البرهان هذه الوزارات معه؟؟ الساسة لا يلمسون رؤوسهم حين الكلام..
ثم بدأت تراشقات بين القوى السياسية الذين انقسموا قبل ذلك إلى عدة فرق تشتم بعضها بعضا، المجلس المركزي، الكتلة الديموقراطية، قوى التغيير الجذري، الكتلة الوطنية، الحراك الوطني.
والملعب السياسي مثل ملعب كرة القدم، إذا مَرّت الكرة أمام المرمى الخالي فهي فرصة محسوبة بالزمن الخاطف، إما أن يركلها قدم المهاجم في المرمى،أو تضيع.. وهذا ما حدث..
بين شد و جذب ضاعت فرصة العمر لاستلام السلطة واستعادة الحكم المدنى عسى ولعل اصلاح الأخطاء التي أطاحت بالفترة الانتقالية.
بعد اندلاع حرب الخرطوم في 15 أبريل 2024، كتبت هنا وتحدثت في كل المنابر الاعلامية وطالبت القوى السياسية بتشكيل حكومة تنفيذية لا تتدخل في العمل العسكري وتكتفي بادارة النشاط المدني بسائر البلاد حتى يتفرغ الجيش لمهامه العسكرية في الحرب، دون أن يتأثر المواطن و الوطن كثيرا.. فالحرب ظلت لعدة شهور في بداياتها تدور في 20 كيلومتر مربع بالعاصمة الخرطوم.. وكان من الممكن الحفاظ على كامل قوام الدولة بكل وزاراتها وتخصصاتها بما في ذلك تسيير دولاب الخدمة المدنية والخدمات مثل التعليم والصحة في كل السودان..
ولكن الصورة بدت على نقيض ذلك تماما..
عندما أعلن السيد مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة النية لتكوين حكومة تنفيذية في خطابه الشهير سبتمبر الماضي، ثارت قوى الحرية والتغيير وصدرت بيانات متزامنة من قياداتها الرئيسية تحذر من هذه الخطوة وتطالب بإرجائها إلى ما بعد انتهاء الحرب، ثم صدر بيان شهير من قائد الدعم السريع يحذر بشدة من الخطوة بل وهدد بإعلان حكومة موازية في الخرطوم.. وكانت المفاجأة أن مجلس السيادة فعلا استجاب وامتنع عن تنفيذ ما جاء في خطاب عقار.
كتبت وتحدثت مرارا وقلت أن الفشل في تشكيل حكومة قبل نهاية الحرب، يعني الاقرار باستمرار السلطة العسكرية في الحكم بعد الحرب، ولن يكون بوسع القوى السياسية تغيير هذا المصير.. لأن الشعب الذي ذاق الأمرين على يد الساسة وفقد أعز ما يملك في حرب تسببت فيها القوى السياسية سيدعم أية سلطة توفر له الأمن على حساب كل الشعارات التي رفعتها ثورة ديسمبر..
و لكن القوى السياسية التي تجتهد في اقصاء بعضها البعض لم تكن قادرة على النظر ببصيرة ..
إلى أن أعلن أمس الفريق أول ياسر العطا وبكل وضوح أن القوات المسلحة ستستمر في ادارة الفترة الانتقالية بعد الحرب ولن تسلم الحكم إلا لحكومة منتخبة.. وهو عين ما كنت أحذر منه..
هل ما يزال هناك ثمة معالجة.. نعم وسأفصل ذلك لاحقا..