حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب : تعويذة “السوداني سوداني”..
زمان في الثمانينيات تقريبا، كنا نشاهد في تلفزيون السودان واحدة من أشهر سهراته، اسمها “دنيا دبنقا” يقدمها الرائع محمد سليمان. الحللقة كانت تُبث من “نادي الضباط” المواجه لمطار الخرطوم بمناسبة افتتاحه.. وفي أثناء الحلقة بث البرنامج تقريرا عن النادي.. وطفق المذيع يتحدث بحماس والكاميرا تتجول في أرجاء النادي (هذا الصالون الأنيق مستورد من ايطاليا، هذا المطبخ استورد خصيصا للنادي من باريس، وهذا الحمام من اليابان..) و استمر المذيع يشرح والكاميرا تتابعه وأسماء دول العالم الصناعي “تطاقش”.. إلى ان وصل إلى الخاتمة وقال المذيع بصوت متهدج ليعبر عن الانجاز والاعجاز ( كل ذلك تم بأيدي سودانية مائة المائة,,) طبعا نحن المتفرجين انفجرنا بالضحك إلا واحدا قال (يا جماعة يقصد العتالة بأيدي سودانية مية المية..).
أمس، قرأت البيان الختامي لمؤتمر الجبهة الشعبية السودانية، والذي أكد أن حل مشكلة الحرب هو في “حوار سوداني سوداني”، وهي عبارة رائجة حاليا في سوق السياسة ما اجتمع سودانيان إلا أصدرا بيانا يؤكد أن حل مشكلة الحرب في “الحوار السوداني سوداني”، حوار في كمبالا أو أديس أو جدة أو المنامة.. أو جنيف..
الحوار “السوداني سوداني” أصبح مجرد “تعويذة” ترنيمة تخرج العين وتفك الحسد وتجبر الضرر أو مثل التمائم “الحجبات” التي يربطها بعض جنود الدعم السريع حول أجسامهم لتمنع الرصاص..
بكل أسف بهذه الطريقة بدلا من أن يكون الحوار “السوداني السوداني” حلا صار مشكلة في حد ذاته، يكشف إلى أي مدى القوى السياسية عاجزة عن انتاج الفعل فتستغرق في الوهم.. مثل الذي يعاني من علة أعياه علاجها فطفق يلتمس الكرامات ..
الحوار “السوداني السوداني” ليس حلا في حد ذاته للأزمة السودانية بل وسيلة يمكن أن تفضي إلى الحل لو أدركت الأطراف السودانية العسكرية والسياسية كيف تصنع و تدير مثل هذا الحوار..
سأقول لكم كيف..
الحوار السوداني سوداني يعني في المقام الأول تحديد الأهداف العليا التي لا يختلف عليها أحد ثم توضيح المسار المفضي لتحقيق هذه الأهداف.. وأهم بند أن تضع علامات الطريق Milestone التي توضح مدى التقدم أو التأخر في الطريق نحو تحقيق الأهداف.
الأهداف العليا التي لا يختلف عليها أحد، ايقاف الحرب كأولوية قصوى، و حكم مدني يؤدي لاستقرار سياسي وترسيم معالم الدولة السودانية الحديثة..
لن يكون هناك شبر واحد للاختلاف إذا نزع عن الحوار توزيع السلطة بأي قدر وعلى أي مستوى..
بعبارة أخرى الحوار لا يشمل قسمة الكراسي بأي وزن كانت.. هنا يصبح المغنم الحزبي السياسي غير وارد.. فتكبح النزوات التي تبحث عن سلطة بأي ثمن و أية وسيلة..
السبب الرئيسي في استمرار الحرب حتى الآن، أطول كثيرا من أية توقعات، هو التعويل المستميت لدى الأطراف في صناعة واقع سياسي وسلطوي بعد الحرب، بمعنى ان القتال الآن ليس من أجل القيم والمباديء المرفوعة فوق الرايات بل من أجل قسمة السلطة – وبالتالي الثروة-
بنتائج ما تفضي اليه الحرب، فأصبحت صافرة نهاية الحرب مرتبطة بضمانات الكراسي والسلطة المرجوة بعدها.
الحوار السوداني سوداني يتحقق بنزع دسم السلطة منه.