حديث المدينة .. عثمان ميرغني يكتب.. ابحث عن السبب التافه..

ربما تذكرون أنني حكيت لكم قصة شخصية.. في بداية حياتي المهنية أبتعثت لفترة تدريبية في كندا.. بعد يومين من التدريب العملي طلب مني المهندس المسؤول أن أصلح عطبا في لوحة إلكترونية داخل جهاز الكمبيوتر، دخلت إلى المعمل وفيه أحدث أجهزة استكشاف الأعطال، بدأت بتوصيلها إلى اللوحة الإلكترونية.. لكني فوجئت بالمدرب المسؤول يمسك يدي ويقول لي (القاعدة الأولى.. أبدأ دائما بالبحث عن السبب التافه Trivial) .. ثم أراني قطعة صغيرة أخرجها هو جزئيا عن مكانها في اللوحة وكان بالامكان رؤيتها بكل سهولة لو استخدمت القاعدة التي ذكرها بدلا من افتراض أن المشكلة معقدة لدرجة استخدام الأجهزة الأكثر تعقيدا للبحث عنها..

هذه التجربة التي تعرضت لها مبكرا علمتني دائما في منهج البحث عن حل لأية مشكلة أن أبدا بتلك القاعدة الذهبية (البحث عن السبب التافه أولا).. وفي السياسة بالتحديد ما أكثر الحاجة لتطبيق هذه القاعدة..

أعطيكم مثالا باهرا.. في حوالي عام 1972 بعد الهزات السياسية العنيفة في السودان، ابتداء من انقلاب نميري مايو 1969 ثم مجزرة الجزيرة أبا و مذبحة ود نوباوي بامدرمان في مارس 1970 ثم انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 ومجزرة بيت الضيافة، بدأت جهود حثيثة لمصالحة وطنية تنهي طوفان الدماء وتحقق الاستقرار السياسي، وجرت مفاوضات سرية توسط فيها الملك فيصل لاعادة المعارضة السودانية من الخارج والتي كان يتزعمها الشريف حسين الهندي، نجحت المفاوضات السرية وبدأ الشريف الهندي حزم امتعته للعودة الى البلاد بعد أن يذيع نميري خبر الاتفاق في خطابه بعد أيام قلائل بمناسبة العيد السنوي لثورة مايو.. لكن في اليوم المشهود صعد نميري المنصة وبدلا من اعلان الخبر السعيد راح يشتم الهندي وكل الأحزاب ويعلن أنها لن تعود إلى البلاد مهما كان..

في الحال بدأت التحليلات السياسية.. غاب عنها منهج البحث عن السبب التافه.. كانت تفترض ان هناك أجندة في المفاوضات أعاقت الاتفاق.. وأحيانا الحديث عن تدخلات أمريكية.. و آخرون اتهموا الامبراطور هيلاسلاسي في اثيوبيا بانه هو من أطاح بفرصة تاريخية ليحرم السودان من الاستقرار بينما راحت تحليلات أخرى توجه الاتهام للرئيس أنور السادات..
باستخدام القاعدة الذهبية (ابحث عن السبب التافه).. اتضح ان السبب وراء ضياع فرصة مصالحة سياسية تاريخية كانت كافية لتغير مسيرة الوجع في السودان.. أبعد ما يكون عن كل هذه التحليلات.. فالسبب كان في طاولة الطعام “تربيزة السفرة” .. هل تصدق!

القصة، أن المجموعة التي كانت مكلفة باعداد خطاب نميري في الاحتفال أكملت مهمتها، ثم الشخص الذي عهد اليه بكتابة الفقرات التي يعلن فيها نميري المصالحة أيضا أكمل مهمته وطبع الخطاب في المطبعة الحكومية، كتيب صغير جاءت فيه المصالحة في صفحة 7 و انتهى كل شيء على مايرام في المساء.

الشخص المكلف بمتابعة طباعة الخطاب حمل النسخ المطبوعة إلى بيت الرئيس نميري، وداخل إلى الصالون ولم يجد موضعا ليترك فيه كتيبات الخطاب إلا طاولة الطعام “تربيزة السفرة” فترك النسخ فوق الطاولة وذهب.
نميري كان في اجتماع بوزارة الشباب والرياضة و معه منصور خالد و الرائد زين العابدين محمد احمد و مأمون عوض أبوزيد، انتهى الاجتماع متأخرا فدعاهم نميري للعشاء بمنزله..

عندما وصلوا تركهم نميري في الصالون و دخل إلى المنزل، وأثناء جلوسهم في الصالون لفت نظرهم الكتيبات المكومة في “تربيزة السفرة” قادهم الفضول لقراءة الكتيب.. وكانت المفاجأة صفحة 7 حيث اعلان المصالحة السياسية.
طفقوا يناقشون نميري في أن هذه الخطوة هي ردة عن ثورة مايو التي كان خطابها الاول تجريم وتخوين الأحزاب والساسة.. وبعد مجهود اقنعوا نميري بتعديل صفحة 7، وتكليف أحدهم لاعادة كتابتها.. وارسلوا بعد منتصف الليل لاستدعاء الأستاذ علي شمو ليتولى اعادة طباعة الكتيب بعد ابدال صفحة 7,,

في اليوم التالي.. وفي الحفل بمناسبة عيد الثورة كان النميري يقرأ الخطاب المعد وفي صفحة 7 شتم الاحزاب والشريف الهندي نفسه و أكد أن الثورة لا تتراجع.. و فوت فرصة تاريخية عظيمة كانت كافية لتغيير شكل السودان منذ ذلك التاريخ والى اليوم..

لو وضع الشخص المكلف بحمل الخطاب إلى بيت نميري النسخ المطبوعة في أي موقع غير “تربيزة السفرة” حتى ولو تركها في غرفة الحراسة، لتغير التاريخ..
الآن ونحن نكابد غرق السودان في شبر ماء الخلافات السياسية التي أودت به الى حرب قد تكلفه وحدته نحتاج إلى البحث عن “السبب التافه”..
وكذلك الحل التافه Trivial Solution .

مقالات ذات صلة