عثمان ميرغني يكتب : فيديو عجيب..
فيديو عجيب شاهدته أمس الأول، رجل يتحدث في مؤتمر بغرب كردفان، خلفه لافتات مكتوب علييها (الحركة الاسلامية السودانية- ولاية غرب كردفان- ملتقى قيادات الحركة الاسلامية بالولاية تحت شعار “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”)، وفي لافتة أخرى مكتوب شعار (السعي لايقاف الحرب..لا للحري نعم للسلام)..
وقف أحد المتحدثين قائلا ( عبود عمل انقلاب، الدنيا ما قامت.. نميري عمل انقلاب الدنيا ما قامت.. البشير عمل انقلاب الدنيا ماقامت، حتى البرهان عمل انقلاب الدنيا ما قامت.. ليه لما جاء حميدتي يعمل انقلاب الدنيا قامت..)
ثم مضى الرجل بحديث أكثر صراحة فقال :
(الآن قياداتنا في الحركة الاسلامية تستنفر الناس في الشمال والشرق، كنا متوقعين إذا كان أمر عدالة يستنفرونا نحن في الغرب..)
بالضرورة يجب الاستماع لكلمات هذا الرجل بمنتهى الجدية والموضوعية.. فهو يطرح أفكارا تتجاوز انتماءه السياسي وترفع بقوة صوتا يردده البعض سرا وعلانية بل و يتفق معه الكثيرون لكن في صمت خشية أن يدخلوا في حقل ألغام لم يعد يحتمل مزيدا من الدماء والأشلاء..
و لم يعد الخطاب الجهوي والقبلي حكرا لجهة سياسية أو مجتمعية، و لم يعد يعتمد في خشونته –أو رعونته- على مستوى الإدارك و الوعي، فقد استوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون في تأجيجهم النيران بقصد أو بدونه باستخدام البارود الجهوي والقبلي.. و سبق أن رأينا نائب حكم دارفور الدكتور محمد عيسى عليو في أكتوبر 2022 قبل الحرب بسبعة أشهر يتحدث أمام جماهير في دارفور ملوحا بحرب جهوية وعنصرية مقبلة تتطلب أن يستعد لها أهل دارفور بالوحدة وأن يستقبلوا النازحين أليهم من بقية أنحاء البلاد، و كان مؤشرا خطيرا صريحا على أن وقود الحرب بلغ تمامه، وبات ينتظر عود الثقاب لا أكثر.
الآن الحرب وقد وقعت واقعتها وقامت قيامتها، ما المطلوب لمواجهة هذا الواقع الذي ما أوصله إلى هذا المقام إلا السكوت بل ووضع لافتة “ممنوع الاقتراب والتصوير” لتزود عنه من يملك ما يكفي من الصراحة للجهر به.
لمخاطبة قضايا الجهوية والقبلية نحتاج أن نطرح سؤالين متلازمين..
الأول؛ هل نحن مختلفون؟ بمعنى هل نحن شعوبا مختلفة ومتفاوتة في مقاديرها الاجتماعية، بعضها أعلى من بعضها؟
الثاني: ان كنا مختلفين، فمختلفون في ماذا؟ عنصريا أم دينيا أم ثقافيا؟
الاجابة واحدة على السؤالين، وهي نفسها سؤالا جديدا..
مختلفون في ماذا؟ أي عين أجنبية تزور السودان بكل أقاليمه لن تستطيع أن تعرف الفروق من حيث المظهر أو لون البشرة أو الطباع العامة، قد نرى نحن بعض الاختلاف في أشكالنا وتقاطيع أجسامنا أو حتى مخارج حروفنا، لكن من قال أن ذلك يسمى اختلافا يستوجب الخصام السياسي أو المجتمعي.. لا زلت اذكر سيدة من بلد أوروبي قالت لي أن زوجها مواطنها من البلد ذاته لكنهما لا يفهمان اللغة المحلية لكل منهما، رغم كونهما من بلد واحد.
في بعض الدول لافتات الشوارع مكتوبة بأكثر من لغة تعبر عن مزيج مجتمعي مختلف في كل شيء حتى اللسان، ومع ذلك لم يكن هذا الاختلاف موجعا وطنيا لدرجة التقاتل الا في عصور الانحطاط التي تجاوزتها الحضارة البشرية منذ قرون سحيقة.
النظر العميق لهذه المسألة يكشف أن جميع حيثيات “الاختلاف” العنصري والجهوي بين السودانيين هي محض أدوات عمل سياسي يرفع شعارات تبدو براقة نبيلة لكنها تنتج تحورات عنصرية حارقة.
بعبارة أخرى، عندما تخوض مجموعات سياسية أو حركات مسلحة حروبا تحت لافتة “ظلم المركز للهامش” وترفع شعارات تطالب بالعدالة، فهي حقيقة تصنع الفيروس الذي سرعان مايجد البيئة المناسبة ليتحور إلى خطاب عنصري و جهوي، يصل مرحلة استنباط مصطلح ” دولة 56″.
و عندما توقع اتفاقات “سلام!!” وتحمل في ديباجتهاعبارات “ظلم المركز للهامش” فهي تربة لانتاج تقاوي الخطاب الجهوي العنصري.
من الحكمة أن نغوص في المشكلة أعمق، وننظر للوجه الآخر، في كثير من الولايات يشكل أبناء الأقاليم التي توصف بانها مهمشة غالبية كاسحة، رغم كون هذه الأقاليم مصنفة في الضفة الأخرى جهويا وعنصريا، وبهذا المفهوم فإن دارفور ليست مجرد جغرافيا تعبر عن منطقة محددة في غرب السودان بل هي امتداد سكاني متمدد في كل ولايات السودان بقوة.. لنأخذ مثالا ولاية الخرطوم، بكل يقين أبناء اقليم دارفور هم أغلبية بصورة عامة و أغلبية في المجالات التي يقاس بها الظلم الاجتماعي في غرب السودان، مثلا في قطاع المال والأعمال لدرجة أن سوقا رائجة مثل “سوق ليبيا” يكاد يكون حكرا للتجار و العاملين من أبناء دارفور، وفي مجال التعليم العالي في ولاية الخرطوم، الغالبية الكاسحة فيه من أبناء دارفور.
من الظلم التعامل مع دارفور باعتبارها جغرافيا، فقد تحقق شعار ثورة ديسمبر (كل البلد دارفور) دون أن يشعر بذلك الساسة خاصة الذين يعتبرون خطاب المظلومية من “عدة الشغل” السياسي.
حسنا، لازلت أحاول تقديم اجابة كيف نجابه مثل هذا الواقع المتحور الخطير..
نحتاج العودة للموضوع مرة أخرى.