عثمان جلال يكتب.. بين تجربة التيار الاسلامي الوطني وقحت في الحكم هناك فرق

(١).
لأن الماضي يقدم لنا مفاتيح الحاضر بتعبير ماركس هذه بعض الاشارات والخلاصات لتجربة حركة الاسلام وقحت المجلس المركزي في الحكم للتأمل والعبرة والاعتبار ، وكما ذكر ابن خلدون الماضي اشبه بالآتي من الماء بالماء.
الاشارة الاولى. لما اهتزت شجرة الديمقراطية الثالثة وكادت ان تسقط عبر بندقية الحركة الشعبية تمهيدا لابتلاع السودان كله في احشاء برنامجها العنصري المناهض للهوية الوطنية ومحمولات الثقافة العربية والاسلامية عندها تصدت الحركة الاسلامية لهذه الاطروحة الآحادية خلال الديمقراطية الثالثة ببث الوعي واليقظة وسط المجتمع فخرجت مواكب امان السودان ،وسند الاسلاميون المؤسسة العسكرية بالمال والرجال والمواقف الصلبة. أما بعد الصعود للحكم في يونيو ١٩٨٩م تصدت لهذا المشىروع الشوفوني بالسنان والافكار وقدمت اكثر من عشرين ألف شهيد حتى عدلت الحركة الشعبية رؤيتها الاحادية الاقصائية الى السودان الجديد الموحد والديمقراطي وهذا توازن وعقلانية، ورغم مأساة الانفصال والذي تتقاسم وزره كل القوى السياسية الوطنية إلا ان كيان الدولة السودانية ، تاريخا وامة،وهوية ظل عصيا يأبى الانكسار.
(٢).
الاشارة الثانية . بدأت الحركة الاسلامية تجربتها في الحكم في اغسطس ١٩٨٩ بمؤتمرات الحوار الوطني التي خاطبت جذور ازمة الحكم في السودان منذ الاستقلال بدءا من الجذر السياسي والاقتصادي الى الجذر الثقافي والهوياتي ، وتداعى لها كل الخبراء والكفاءات الوطنية دون تحيزات ايديولوجية او حزبية وشكلت هذه المؤتمرات الوقدة بتعبير محمد اقبال لانطلاق فلسفة الحكم الجديد وعمادها ان المجتمع اساس النهضة الحضارية.
وبثمارها تعرفونها وتجلت التجربة في النظام الفيدرالي وجوهره ان المجتمع هو الأصل في الحكم والتنمية بدءا من الحي والمحلية والولاية صعودا الى المؤسسات التشريعية والتنفيذية المركزية. وتجلت كذلك في ثورة التعليم العام والعالي ،وثمرتها ثورة المعلومات والاتصالات، والثورة الصناعية وثورة النفط والبترول ،وثروة هذه الثورة وعي المجتمع العميق أنه الاصل والمرجعية في بناء الاحزاب السياسية واختيار القيادات وتفجير الثورات وصناعة التنمية المستدامة وهكذا تتحقق فكرة الدولة المنسجمة بتعبير هيغل،وجوهرها ان عناصر قوة الدولة تتجلى في المماثلة بين إرادة الحاكم وإرادة المحكوم ،وعند هذه اللحظة التاريخية تستمد الدولة قوتها وبسالتها ورخاءها، وهكذا كانت تجربة حكم الانقاذ خلال اعوام السعد والرخاء ، ولكن ما ان بدت تتعازل عن المجتمع حتى انتفضت الثورة ليست مركزيا كما كان في ثورات ١٩٦٤ و١٩٨٥م بل لا مركزيا في كل السودان تعبيرا لقيمة الثورة المنسجمة بين المركز والهامش.
(٣).
الاشارة الثالثة. الادراك والوعي الجمعي للاسلاميين ان بقاء ووحدة الدولة، وتماسك النسيج المجتمعي أولوية استراتيجية من التمسك بأهداب السلطة وتجلى ذلك بالترجل عن السلطة واحترام ارادة الشعب السوداني في ثورة ديسمبر ٢٠١٨.
إن الحكم وسيلة والغاية هي استعادة الثقة والتصالح مع المجتمع ومن ثم العودة عبر الرافعة المجتمعية لدائرة التأثير وصناعة الاحداث.
وبعد سقوط التجربة رفع الاسلاميون شعار كفوا ايديكم واقيموا الصلاة ولسان حالهم يلهج مع صلاح احمد ابراهيم
في غد يعرف عنا القادمون
اي حب قد حملناه لهم
في غد يحسب منا الحاسبون
كم أياد أسلفت منا لهم
لقد اتسمت تجربة التيار الاسلامي الوطني في الحكم خلال كل اطوارها بالانفتاح على كل القوى السياسية الوطنية واستيعابها في بنية الحكم حتى بلغت نسب المشاركة في حكومة الوفاق الوطني الاخيرة ٤٩٪ للشركاء مقابل ٥١٪. للمؤتمر الوطني.
(٤).
أما تجربة قحت المجلس المركزي ،والثورة تتخلق في طور البذرة إمكانا لم يتحقق بتعبير هيغل، فنزعت الى طرد شركائها من الميدان الثوري فكان هذا الشرخ الاول في جسد الثورة
ثم أدلجت قحت الثورة بالشعارات والقوانين المناقضة لقيم وهوية المجتمع فوقع الشرخ الثاني في بنية المجتمع وهو الاخطر لان تشظي المجتمع عموديا يؤدي الى تفكك الدولة على اساس صراع الهويات القاتلة. ثم عبأت قحت الثوار بالشعارات العدمية والطاقات السالبة وخنست للتفاوض مع المكون العسكري حول قسمة السلطة ، وقبل ان تجف دماء الثوار عقب جريمة فض الاعتصام وقعت قحت على الاعلان السياسي ثم الوثيقة الدستورية واقتسام السلطة مع المكون العسكري في سبتمبر ٢٠١٩، وعلى استحياء كونت لجنة اديب لتقصي الحقائق في جريمة فض الاعتصام ولم تحرك الملف حتى سقطت في اكتوبر ٢٠٢١م ووقع الشرخ الثالث بينها وبين القاعدة الثورية.
(٥).
عندها تحررت قحت من شعارات الثورة واختزلت ذاتها حول السلطة التي لا تسع الجميع وانفض تحالفها مع شركائها في اتفاقية سلام جوبا ووقع الشرخ الرابع في جسد الثورة
ثم انفضت الشراكة غير الحميدة عقب قرارات الفريق البرهان التصحيحية في اكتوبر ٢٠٢١.
بينما كانت قحت تحطم في مشروع وقيم ثورة ديسمبر كان المرتزق العابر للحدود حميدتي ينهب في موارد أجيال المستقبل ويراكم في امبراطوريته العسكرية والاقتصادية وينسج منوال شبكة علاقاته وتحالفاته الداخلية والخارجية الهدامة وينتظر ساعة الصفر للانقضاض على الجميع وتشييد مملكة الجنيد وقحت صامتة.
فماذا صنعت قحت لمعالجة الازمة الثورية الداخلية مع شركائها في الوطن ؟؟ استقوت ببندقية ايقونة الدولة المدنية حميدتي !! واستلهمت تجارب الامارات واثيوبيا وتشاد وافريقيا الوسطى وخليفة حفتر في الديمقراطية الليبرالية!! وتجارب الرباعية والثلاثية الدولية والايغاد في الوساطات الدولية والاقليمية والتي أثمرت سلاما ورفاهية ونهضة وديمقراطية مستدامة!!!جمعت قحت بين كل هذا الخبث والمكر والتناقض والسمسرة السياسية في سلة واحدة بحثا عن الديمقراطية المستحيلة!!!
وثالثة الاثافي لا تزال في انتظار ان تفرغ مرتزقة ال دقلو وسعها في قتل وسلب ونهب واغتصاب حرائر المجتمع وتدمير المؤسسات العامة والخاصة حتى تسلمهم بالضبة والمفتاح مفاتيح الدولة المدنية!!
(٦).
لقد وضعت تجربة قحت المجلس المركزي السودان بين نارين، نار الفوضى الاجتماعية ،والاستبداد السياسي وكلاهما يغذي الاخر ويتغذى منه، فالفوضى الاجتماعية مشروع طغيان والاستبداد السياسي مشروع حرب أهلية مؤجلة.
والخلاصة ثمة فرق جذري بين التجربتين فتجربة الحركة الاسلامية في الحكم تشكلت من رحم رؤية ورسالة وقيم وقيادة فذة وبسالة ونبالة وشرف والان تعود قيادة وقاعدة للقتال مع المجتمع والجيش في خندق معركة الكرامة والشرف الوطني.

اما تجربة قحت المجلس المركزي بدأت بأزمة عدم الوعي بالأزمة الوطنية بتعبير ابوالقاسم حاج حمد وانتهت بانتفاء الشرف الثوري والاخلاقي وهي تغض الطرف عن شنائع مرتزقة آل دقلو بل وبعض كوادرها يقاتل معهم من بيت الى بيت ومن غرفة الى غرفة.

هكذا استدار الزمان فعادت حركة الاسلام في انبعاث يأبى على النسيان، وسقطت قحت المجلس المركزي من الوجدان الجمعي للمجتمع.
صفوة القول فقد بدأت تجربة الحركة الاسلامية بإنقلاب عسكري وانتهت بمشاركة غالبية القوى السياسية الوطنية في مؤسسات الحكم المركزية والولائية والمحلية.

اما تجربة قحت المجلس المركزي فقد بدأت بثورة شعبية وتقزمت في مشروع نشالي الثورة والمتمثل في تحالف ملبشيا آل دقلو الارهابية وقيادات قحت البرجوازية

لذلك فإن الشعب السوداني سيحاسب الحركة الاسلامية على عدم بلوغ الكمال والمثال في تجربة الحكم والدولة وسيحاسب قحت المجلس المركزي على الخيبة والخذلان ووأد ثورة ديسمبر والتآمر مع أولاد زايد وآل دقلو في اشعال حرب ١٥ ابريل الدموية.

مقالات ذات صلة