جريدة بريطانية: هل ثمة مؤشرات لنهاية حرب السودان؟
هل ثمة مؤشرات لنهاية حرب السودان؟
كما عبّرت هذه الحرب عن فشل النخبة فإن من الأهمية بمكان أن تكون المرحلة المقبلة فصلاً جديداً في ممارسة الحكم
هناك مؤشرات واضحة اليوم لاتجاه الحرب السودانية، وهو اتجاه ربما ينحو إلى نهاياتها في ظل معطيات كثيرة، محلية وإقليمية ودولية.
طالما كان ظاهراً أن هذه الحرب بدت وبوضوح، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على اندلاعها، حرباً تم تصميمها في إطار سياق مفتعل يتصل بأوضاع المرحلة السياسية السودانية في ما بعد الثورة، ومن داخل ذلك التطور الذي تحدث فيه الاهتزازات والتوترات إثر حدث الثورة الكبير، وهو وضع بطبيعة الحال يعكس تفاعلات كثيرة ويستصحب في تفاعلاته تلك سياقاً للثورة والثورة المضادة، لا سيما أن النظام الأوتوقراطي الذي قامت عليه ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 هو نظام طاعن في أيديولوجيا متزمتة للإسلام السياسي، الذي كان السودان مسرحاً لتجريبه الكامل 30 سنة عبر النظام الانقلابي لعمر البشير إثر استيلائه على السلطة منقلباً على النظام الديمقراطي عام 1989.
هكذا يمكن القول إن حرب الخرطوم الأخيرة التي اندلعت يوم 15 أبريل (نيسان) 2012 هي في تقديرنا ذروة العنف على الصراع من أجل سلطة ظلت الهياكل الناعمة والمراوغة للنظام القديم محتفظة بها، فيما كانت تلك الهياكل العسكرية تمارس ألعاباً للوقت مع قوى الثورة من أجل الإصرار على الاحتفاظ بسلطة امتدت لأكثر من أربعة أعوام بعد الثورة، حتى إذا سرّع التصميم الدستوري الذي تضمنه الاتفاق الإطاري عودة العسكر إلى الثكنات (بعد انقلابهم على حكومة الثورة عام 2021) عبر رعاية وحماية إقليمية ودولية، بلغت التناقضات مرحلة انفجارها.
محنة النصف قرن
في كل الأحوال، لم تكن هذه الحرب سوى فصل جديد ذي علاقة بتاريخ الحرب الأهلية الممتد لأكثر من نصف قرن في السودان، لكنها في الوقت ذاته، بالنظر إلى المؤشرات المتصلة بطبيعة النظام السابق الذي ظلت هياكله قابضة على مفاصل السلطة، يجوز القول إنها حرب يمكن لكل مراقب لأوضاع ما بعد الثورة في السودان أن يتكهن بوقوعها، ليس ذلك فحسب، بل كذلك بوصفها حرباً تتصل في سياقاتها بإمكانية للاحتواء والسيطرة عليها عبر ضغوط متى توافرت توافقاتها الإقليمية والدولية سيكون لها القدرة على إنهائها.
فمما كشفته سنوات نظام الإنقاذ الإسلامي خلال عقود ثلاثة، أن علاقة هذا النظام بالمؤثرات الجيوسياسية التي كان يتعرض لها، واستجابته للضغوط التي دفع ثمنها غالياً في محطات الحصار الاقتصادي ووضعه تحت قائمة الإرهاب مما أدى بعد ذلك ليس فقط للانسدادات البنيوية التي عجلت بالثورة عليه، إنما عكست مؤشرات بارزة باستحالة نجاح أي انقلاب عسكري في المستقبل السياسي للسودان.
على ضوء ذلك يمكننا أن نستنتج أنه حتى احتمال الاستجابة للانخراط في حرب أهلية شاملة، ربما لا يكون وارداً في مضاعفات هذه الحرب، نظراً إلى تعب السودانيين من الحروب الأهلية الطرفية التي صحبت حياتهم لأكثر من نصف قرن.
لذا فإن الإشارات التي بدأ يطلقها طرفا الحرب (الجيش و”الدعم السريع”) بعد أكثر من ثلاثة أشهر من المعارك، ربما تنبئ بقرب نهاية الحرب نتيجة للحراك الإقليمي والدولي الذي يسعى إلى إنهائها عبر حزمة من المبادرات المتكاملة سواء بمنبر جدة أو عبر “الإيغاد” أو الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى الجهود الدولية، والجهود التي تسعى لها دول جوار السودان ولا سيما مصر، التي يبدو أن ثمة توجهات جديدة طرأت علاقاتها مع القوى السياسية السودانية الفاعلة (قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي) خصوصاً بعد التوافقات التي لا يمكن قراءة مستقبل المشهد السياسي السوداني اليوم إلا عبرها، ولا سيما الحلول التي يقترحها المجتمع الدولي – الولايات المتحدة على وجه الخصوص – للخروج من واقع الحرب.
وخلال الأيام القليلة الماضية بدت مؤشرات ربما تنبئ ببدايات الدخول في الحل السياسي، سواء عبر انعقاد اجتماع “قوى الحرية والتغير – المجلس المركزي” في القاهرة، ثم اجتماع السفير الأميركي للسودان بـ”قوى الحرية والتغيير” في القاهرة، إلى جانب قوى سياسية أخرى، وذلك في جولة لمسؤولين أميركيين كبار إلى جدة شملت مدير الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز إلى جانب السفير الأميركي للسودان.
وعلى رغم التكتم المضروب على محتوى محادثات منبر جدة، والتسريبات التي تقول إن هناك تقدماً كبيراً في التفاوض، فإن محتوى أطروحة منبر جدة للحل يقوم على عنصرين: وقف لإطلاق النار، والشروع في ترتيبات الحل السياسي بعنوان عريض هو خروج الجيش و”الدعم السريع” من السلطة وتسليمها إلى المدنيين، لكن ليس على أساس واقع الاتفاق الإطاري في ما قبل الحرب، بل عبر استصحاب مضمونه ولكن باختيار رئيس مدني مستقل بصلاحيات واسعة ودعم دولي كبير، إلى جانب أن الحل الشامل هذه المرة سيضم حتى الحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا، مثل “الحركة الشعبية – شمال” جناح عبدالعزيز الحلو، وحركة “جيش تحرير السودان” بقيادة عبدالواحد محمد نور، في إطار إعادة هيكلة للجيش السوداني.
إلى جانب ذلك، يعكس مرور أكثر من ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب، وعدم قدرة أي من الطرفين على إلغاء الآخر، مناسبة قوية للتفكير جدياً في الحل السياسي الذي يعرضه المجتمع الدولي والإقليمي، مستخدماً في ذلك العصا والجزرة لإنهاء الحرب مهما كلف ذلك، في وقت أدركت مصر أن التدخل الدولي لإنهاء الحرب في السودان (خشية العواقب الجيوسياسية الوخيمة لانهيار الدولة المركزية في السودان على محيط شرق وغرب أفريقيا) هو سيناريو مطروح على الطاولة حال تعنت الطرفين في القبول بأطروحة مفاوضات منبر جدة، وهو سيناريو قد تعترض عليه مصر لكن ليس بوسعها منعه أو إيقافه، وفي هذا الصدد يمكننا تفسير طلب مصر للانضمام إلى الرباعية الدولية من أجل السودان (أميركا – بريطانيا – السعودية – الإمارات) للعمل من داخل التصميم الدولي لمشروع إنهاء الحرب في السودان بقيادة “الرباعية” وأطراف أخرى.
على طريق الخلاص
قد لا يبدو ظهور شريط الفيديو الذي يظهر فيه الجنرال حميدتي نهاية الأسبوع الماضي بعد ثلاثة أشهر من الاختفاء بلا معنى في سياق الترتيبات والمؤشرات التي تقول إن ثمة خطة دولية وإقليمية تلوح في الأفق لاحتواء الحرب في السودان في ظل واقع جيوسياسي معقد ضربت اهتزازاته غرب أفريقيا، الأمر الذي سيبدو معه إيقاف الحرب في السودان قراراً استراتيجياً أميركياً بالضرورة.
وفي تقديرنا، مهما بدا أن ثمة تسييساً طاول الجيش طوال ثلاثين سنة على يد نظام عمر البشير، فإن طريق الخلاص للخروج من مأزق الحرب التي وصفها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بأنها “عبثية” هو إعادة قدرة الجيش على رؤية الأمور بوضوح.
فإذا كان كل من الجيش و”الدعم السريع” قد وقعا على وثيقة الاتفاق الإطاري، الذي يقضي بخروج كليهما من العملية السياسية بعد دمج قوات “الدعم” في الجيش عبر ترتيبات ملف الإصلاح الأمني والعسكري الذي كان يتضمن ثلاثة مستويات، هي التحديث والإصلاح والدمج. وإذا كان وفد الجيش في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري (وهي إحدى الورش الخمس للاتفاق الإطاري) قد وافق في اتفاق إعلان للمبادئ على القبول بدمج “الدعم السريع” في الجيش ضمن العملية الشاملة للإصلاح والتحديث والدمج في مدة لا تتجاوز 10 سنوات، فإن في استئناف قرار دمج “الدعم السريع” ضمن إطار موسع لخطة تدمج جميع جيوش الحركات المسلحة بما في ذلك “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” بقيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة “جيش تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد محمد نور، سيكون هو الخيار الذي نقدّر أنه سيكون حاضراً في أية خطة دولية لإنهاء الحرب في السودان والشروع في ترتيب مرحلة سياسية جديدة قد لا تكون السلطة فيها إلا عبر توافق عريض للمدنيين على رئيس وزراء مستقل ذي صلاحيات تنفيذية كبيرة، إلى جانب تكوين مجلس تشريعي (برلمان).
وكما عبرت هذه الحرب عن فشل النخبة السياسية والعسكرية السودانية وعجزها عن صناعة اجتماع سياسي ناجح للسودانيين بعد الثورة، فإن من الأهمية بمكان أن تكون المرحلة السياسية الجديدة معبرة عن فصل جديد في ممارسة السياسة والحكم في السودان عبر تأطير سياسي جديد، لا عبر الوجوه القديمة للحرب والسياسة قبل 15 أبريل 2023.