ثورة أبريل 1985 بشهادات من عايشها.. كيف انحاز الجيش لمطالب السودانيين؟

عاش السودان في 26 مارس/ آذار عام 1985 على وقع مظاهرات انطلقت من جامعة الخرطوم لتمتد إلى معظم مدن البلاد، للمطالبة بإسقاط النظام الحاكم احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية،

حيث سقط في هذه المظاهرات عدد من القتلى والجرحى قبيل إعلان النقابات عن إضراب مفتوح.

وفي السادس من أبريل/ نيسان عام 1985، أعلن الجيش بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب عن انحيازه لمطالب الشعب والإطاحة بنظام جعفر النميريّ.

حكم سوار الذهب البلاد لمدة عام ثم سلّم السلطة للشعب عبر انتخابات مدنيّة.

وكان السودان قد شهد، بعد مرور أكثر من 15 عامًا على الانقلاب، الذي قاده النميري واستلامه لمقاليد الحكم، أوضاعًا متدهورة على المستويات كافة، لا سيما في ظل الحرب المستعرة في جنوب البلاد. فكيف يستعيد من عايش تلك المرحلة تفاصيل المشهد؟

أوضاع اقتصادية صعبة وسخط شعبي
يقول رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عام 1985-1986 جزولي العاقب، إن السودان في الأشهر الأخيرة من النظام المايوي كان يعاني من أوضاع اقتصادية صعبة جدًا، حيث كانت هناك صعوبة في دورة الحياة الأساسية.

ويشرح: أن البلاد كانت مظلمة من دون كهرباء، ولا وقود بأشكاله المختلفة، وكادت الحياة أن تكون متوقفة تمامًا.

من جانبه، يوضح رئيس اتحاد طلبة جامعة الخرطوم عام 1984-1985 عمر الدقير، أن الأمور بلغت قمة السخط الشعبي بعدما تم إعدام محمود محمد طه في يناير/ كانون الثاني 1984، والذي كان قد أوضح المدى البعيد الذي بلغته الوحشية والقمع من جانب نظام مايو.

ويردف بأن النميري قرّر بحلول مارس 1984 القيام برحلة إلى الولايات المتحدة، قيل إنها للاستشفاء، تاركًا وراءه واقعًا مأسويًا. ثم بحلول أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، تم استرداد الاتحاد وفازت لائحة القوى الوطنية بـ 39 من أصل 40 مقعدًا.

ويلفت الدقير إلى أنه جاء في طليعة برنامج تحالف القوى الوطنية العمل على تجميع النقابات من أجل إسقاط نظام مايو، بالوسيلة المجربة في أكتوبر 1964، وهي العصيان المدني والإضراب السياسي الشامل.

مظاهرات وبيانات تزعج الجهات الأمنية
وقاد اتحاد الطلبة أواخر مارس 1985، عقب سفر النميري إلى الولايات المتحدة، احتجاجات شعبية واسعة جابت شوارع الخرطوم ومدنها، تندد بتردي الأوضاع الاقتصادية وسوء الخدمات.

وفي هذا الصدد، يتوقف الدقير عند مسيرة ضخمة انطلقت عقب تجمع طلاب من الجامعات في دار اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية في 26 مارس، مشيرًا إلى أنها كانت أبرز المظاهرات وأكبرها من حيث العدد واستطاعت أن تلفت الأنظار إليها.

ويوضح أنها شهدت الحادثة الشهيرة، عندما تم حرق مقر جمعية ود نميري التعاونية، باعتبار أن الناس كانوا ينظرون إليها على أنها بؤرة من بؤر الفساد.

ويذكر بأن الأجهزة الأمنية استخدمت في مواجهة الحراك الذي انفجر في أواخر مارس 1985، الأساليب المعروفة التي تعتمدها كل الأنظمة المستبدة؛ وهي القمع الذي تطوّر من قنابل الغاز والهراوات والعصي الكهربائية إلى الرصاص الحي.

ويلفت إلى أن الطوفان الشعبي وحالة الفوران الجماهيري كانت أكبر من أن يسكتها قمع أو أن تجهضها تحركات جهاز الأمن، الذي ساق مئات الناشطين إلى الزنازين والمعتقلات.

ويشير إلى “أن مكاتب اتحاد جامعة الخرطوم كانت مركزًا لطباعة كل البيانات المضادة لنظام مايو”، كاشفًا أن بيانًا طلب طباعته أحد الضباط ليتم توزيعه من جانب الطلاب، أزعج الجهات الأمنية فقامت باقتحام “مكاتب الاتحاد واقتادونا تحت فوهات الرشاشات إلى الاعتقال”.

بدورها، تلفت ممثلة الهيئة النقابية لكليات التمريض العالي عام 1985 نعمات مالك، إلى اجتماع للنقابات مع اتحاد الطلاب قصدته ومعها اثنان من ممثلي النقابة العامة لفنيي المهن الصحية والطبية.

وتقول إنه تم اعتراضهم في الشارع، حيث بدا أن السيارة التي تقلهم كانت مراقبة، وتمت محاصرتهم بسيارة من الأمام وأخرى من الخلف قبل أن يتم اعتقالهم.

شارع القصر شهد كل ثورات السودان
من ناحيته، يستذكر الصحافي فتح الرحمن النحاس “ثورة أبريل 1985″، التي يرى أنها تمثل النموذج الأفضل للثورات الشعبية، وتمثل فترة استقرار نادر في تاريخ السودان.

ويوضح أنه كان في ذلك الحين صحافيًا في جريدة الأيام، التي شكّل مقرها مساحة للتفاعل مع أحداث الثورة.

ويقول إن الصحافيين شكلوا اتحادًا أطلقوا عليه اسم “تجمع الصحافيين الوطنيين” ليكون مشاركًا في هذه الثورة العظيمة، والتي صنعها الشعب السوداني.

وفيما يلفت إلى أن شارع القصر شهد كل ثورات السودان، يردف بأن الجماهير احتشدت فيه في ذاك اليوم، قبل أن تتحرك باتجاه القصر الجمهوري.

ويذكر أن الحشد كان مهيبًا واشتركت فيه جماهير الشعب، وشكل الشرارة التي أشعلت الثورة وحركت بقية الشارع.

ويشير إلى أن المتظاهرين تفرّقوا عندما بدأ إطلاق الغاز المسيل الدموع باتجاه شوارع الخرطوم، وملأوا العاصمة كلها.

ودفع قمع الاحتجاجات والعنف الذي جوبه به المتظاهرون من قبل رجال الأمن السوداني، النقابات وأبرزها نقابة الأطباء، إلى إعلان إضراب مفتوح يوم 2 أبريل.

ويشير النحاس إلى أن مظاهرة ضخمة بدأت من الماريديان وسكة الحديد واتجهت صوب القصر الجمهوري، حيث كان الهتاف قويًا بسقوط نظام النميري.

انحياز الجيش إلى مطالب الشعب
ويشير عضو المجلس العسكري الانتقالي عام 1985 حمادة عبدالعظيم، إلى أن “المؤسسة العسكرية هي في الأساس مؤسسة لخدمة الشعب وحمايته، ولم نتدخل في بداية الأمر لاعتقادنا بأن الوضع قد يتحسن”.

ويردف بأنه لم يكن من مسؤوليتنا تغيير الأوضاع، لكن عندما تدهورت الأمور وأصبح لا يمكن احتمالها، كان لا بد للقوات المسلحة من التدخل.

وفي 6 أبريل، أعلن سوار الذهب الذي كان وزيرًا للدفاع في ذلك الوقت انحياز الجيش إلى مطالب الشعب وعزل الرئيس الأسبق النميري والإطاحة بنظامه.

وعلى إثر هذا الإعلان، تدفقت جماهير الشعب باتجاه القيادة العامة من كل مناطق العاصمة؛ بحري الخرطوم وأم درمان، فكان الحشد رهيبًا هناك وتم الكشف عن تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، وفق ما يقول الصحافي فتح الرحمن النحاس.

أما رئيس اتحاد طلبة جامعة الخرطوم عام 1984-1985 عمر الدقير، فيوضح أنه بعد لحظات من صدور البيان هجمت جماهير كبيرة من الشعب على سجن كوبر العمومي وتم كسر أبوابه بالقوة واقتحامه في مشهد تاريخي يماثل مشهد سقوط سجن الباستيل.

ويلفت رئيس وزراء الحكومة الانتقالية (1985-1986) جزولي العاقب، إلى أن المواطنين الذين جاؤوا إلى سجن كوبر جاؤوا بعربة حركوها بشكل خلفي باتجاه الباب فكسروه، وفي الداخل تعرفوا إليه وأخذوه.

ويوضح أنه ذهب إلى نقابة الأطباء، حيث بدأت خطوات المرحلة السياسية في انتفاضة أبريل. وبينما يلفت إلى أنه سرعان ما كوّن كبار الضباط المجلس العسكري الانتقالي، يقول: عندما فعلوا ذلك بدأت الشكوك تساورنا بأنه ربما الجيش يفكر بالاستيلاء على السلطة.

ويشرح أنه التقى بوصفه رئيس التجمع النقابي بالوزير سوار الذهب، الذي أكد له أن المجلس أنشئ من أجل وحدة الجيش الداخلية، ولا علاقة لذلك بالرغبة في الاستمرار بالحكم أو الاستيلاء على السلطة.

وشهد السودان خلال الفترة الانتقالية في ظل حكم سوار الذهب تحسنًا في الأوضاع الخدمية والاقتصادية، وعلى صعيد العلاقات الدولية، ونشطت حركة الأحزاب في عهده من جديد.

ورغم المطالبات بتمديد الفترة الانتقالية إلا أن الرئيس الأسبق سوار الذهب أعاد زمام السلطة بعد عام كما وعد تحقيقًا للديمقراطية، مما أتاح للسودان أن يحظى بفترة حكم مدنية كما شاء السودانيون.

كيف تم ترتيب تلك الفترة، وما هي الشروط التي فرضها النقابيون، وكيف تم الاستعداد للانتخابات؟ المزيد عن تلك المرحلة في الحلقة المرفقة من برنامج “كنت هناك”.

مقالات ذات صلة