الصوم من أجل الحرية ! .. د. عمر القراي
الصوم من أجل الحرية !
د. عمر القراي
قال تعالي (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..والوشيجة بين القرآن، ورمضان، ليست مجرد نزول القرآن، في هذا الشهر المبارك، وإنما هي النفس البشرية ..فالقرآن إنما هو قصة هذه النفس، في رحلة إغترابها، وتيهها، ثم رجوعها الى كمالها الذي لا تحده حدود، والذي صدرت عنه في سحيق الآماد ..ورمضان إنما هو وسيلة، من وسائل تربيتها، وتهذيبها، ومن ثم مساعدتها في رحلتها المقدسة نحو كمالها ..قال تعالى في ذلك (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ..فالإنسان خلق في أرفع صور الكمال، ثم رد الى أدنى صور التدني، ثم قدر الله له بمحض فضله، التوبة، ثم الرجعى ويسر له عمل الصالحات، ليعيده بعد تجربة الغربة، الى حيث كان من الكمال عند الله ..فإن الرجوع إنما يكون الى حيث كان الشخص، ولهذا قال جل من قائل: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) ..ولما كان القرآن، هو قصة النفس البشرية، بين إغترابها ورجوعها، وليس في الوجود الحادث ما هو أفضل من الإنسان، كان القرآن أحسن القصص، قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) ..والقرآن كلام الله، قال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) ..ولكن الله سبحانه وتعالى لايتكلم بجارحة، وليس كلامه أصوات تنسل من الحناجر، تحدد معانيها لغة معينة، كما نتكلم نحن، وإنما هو متكلم بذاته ..وحين تأذن بأن نعرفه، تنزل من الإطلاق الى القيد، فصب كلامه القديم، في قوالب اللغة العربية، فحملت منه ما أطاقت، ثم تكسرت، حين ضاقت أوانيها عن المعاني، وتحولت الى حروف، لا معنى لها في ذاتها، وإنما هي مجرد إشارة الى الإطلاق..قال تعالى عن ذلك (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).. فالقرآن جُعل عربياً بالتنزل، بعد أن لم يكن، وهو لدى التناهي، في حقيقته، ما هو غير الذات ..ألم يقل عنه في أم الكتاب أنه (علي حكيم)؟! ف(حم) إشارة ، و(الكتاب المبين) عبارة ..والذات الإلهية فوق العبارة وفوق الإشارة!!
وقبل أن ينزل القرآن في شهر رمضان، وقبل أن ينزل في مكة المكرمة ..نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثم تنزل الى عقله، فنطق به لسانه ..قال تعالى ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ..واللسان ليس مجرد اللغة، وإنما هو ملكة التعبير، والتي ترجع الى العقل ..والعلاقة بين العقل والصوم، علاقة تعاون على السيطرة على نوازع الجبلة الحيوانية في الجرم البشري، التي تطلب الشهوة بإلحاح مستمر .. ولقد جاءت الأوامر والنواهي في الشريعة، لتقوي العقل برفضه إتباع شهوات النفس، والعقل القوي، القادر على التفكر، هو الهدف الأساسي لشريعة الحلال والحرام .. قال تعالى (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).. فالعقل لا يقوى، ويصبح ذكياً، ودرّاكاً، إلا إذا استطاع أن يقيد نوازع النفس، ويضبط غريزتها .. ومن هنا، جاءت فضيلة الصوم، في مستواه الإبتدائي، تقييداً محدوداً، لشهوتي البطن والفرج، في نهار شهر رمضان. فإذا تدرج السالك في مراقي الصوم، زاد صومه عن مجرد شهر رمضان، وتوسعت دائرة الصوم، حتى يفطم نفسه من كل الفضول، ويمرسها في محاربة العادة، ومن ذلك الصوم عن الكلام، قال تعالى (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) !! ومعلوم أن الصيام الذي كتب علينا، وهو ما كتب على الذين من قبلنا، من أصحاب الأديان، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .. والصوم عن الكلام لم يجئ في الشريعة، ولكنه جاء في السنة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) والخير هو ذكر الله !! ومنه أيضاً قوله (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وانفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعد عنها الى البدعة).
فإذا استقامت للسالك نفسه في الصوم عن الأعيان الحسية، إتجه الصوم الى الخواطر، فصام عن كل خاطر سوء ..والصائم عن الخواطر السيئة، بحيث تكون داخلية نفسه خيّرة، هو الصائم حقاً ..ومع أننا في مستوى الشريعة غير محاسبين على الخواطر، ما لم نقل أو نفعل، إلا أننا في مستوى الحقيقة، محاسبون حتى على الخواطر !! قال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)!! ولقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اجعل سريرتي خير من علانيتي واجعل علانيتي خيّرة).وإذا لم يستطع الإنسان، أن يكف عن الكذب، والنميمة، والغيبة، والسخرية، والسب، والشتم، واللعن، والبذاءة، وغيرها من مساوئ المعاملة، ثم الخواطر الشريرة، والخواطر الشهوانية، فلا داعي ان يترك طعامه وشرابه، كما جاء في الحديث، لأنه لن يعتبر عند الله صائماً..
وعن علاقة الصوم بالصلاة، قال تعالى ( ياأيهاالذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين) … والصبر في الآية يعني الصوم، لأن الصوم رياضة تطالب بالصبرعن دواعي الجبلة، وعن الغفلة، والإنحراف .. وغرضها تقوية الفكر. والصبر فضيلة، في السالك، يحتاج اليها في جميع مقامات العبادة . وليست في صفة العباد، صفة تعادلها، ولذلك فإنه قد قال ( انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فكل عامل في الطاعات، أجره بحساب، فالحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء، الا الصابر فإن اجره بغير حساب … والحديث ” الصوم ضياء والصلاة نور” يوضح العلاقة بين الصوم والصلاة ، كما أنه يوضح قيمة الصوم والصلاة للسالك .. والفرق بين النور والضياء، محكي في قوله تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)، فالضياء هو ” النور ” الأصيل، والنور هو ” النور” المعار. فالجرم المضئ نوره منه كالشمس، والجرم المنوّر، نوره مستمد من غيره كالقمر .. وعندهم أن الأرض والشمس والقمر من آيات الآفاق، تمثل الثالوث المودع في البنية البشرية، من آيات النفوس .. والله تبارك وتعالى يقول ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق، أولم يكف بربك ان على كل شئ شهيد).. فالشمس من آيات الآفاق، في مقابلة القلب، من آيات النفوس، والقمر من آيات الآفاق في مقابلة العقل من آيات النفوس، والأرض من آيات الآفاق في مقابلة الجسد من آيات النفوس!!( ان الصيام هو حظ الروح، فهو يشحذ الذكاء، ويعطية نفاذاً ومضياً. ومعلوم أن ” البطنة” تنيم ” الفطنة”. والصيام انما يشحذ الذكاء، لأنه يؤثر على الدم فينقيه، ويقلله، ويحد بذلك من طيش واندفاع الشهوة .. وقد جاء في حديث المعصوم (إن الشيطان يجري من احدكم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالصوم” )( الأخوان الجمهوريون : الصوم ضياء والصلاة نور. الخرطوم 1976م).
ولما كان الصيام حظ الروح، فقد إرتبط بالعقل، لأن العقل هو الروح، في مستوى من مستوياتها، واليه الإشارة بقوله تعالى ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) .. والتسوية قد جرت بالتطور الوئيد للجسد، حتى إذا تأهل، نفخ الله فيه لطيفة اللطائف- العقل، وميزه به عن الحيوان، وجعله مناط التكليف ومدار التشريف .. والقرآن أيضاً هو الروح في مستوى من مستوياتها، قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن هنا، من كونهما مستويان من الروح، جاءت الوشيجة بين الصوم والقرآن ..
والصوم ليس قصاراه أن يكبت الشهوات، وإنما أن يكسب العقل بالمران، السيطرة عليها، حتى يحرره من سلطانها تماماً، ومن هنا تجئ علاقة الصوم بالحرية. والحرية مستويان : حرية الفرد في الجماعة، وهي التي يناضل الناس لتحقيقها، بخلق القوانين العادلة، وبالنظام الديمقراطي، واستقلال القضاء، والتداول السلمي للسلطة، والمواثيق التي تحفظ حقوق الإنسان. وحرية الفرد في داخل نفسه، وهي تعني خلاصه من الخوف. وذلك لأن الشخص الخائف، لا يستطيع الإستمتاع بحياته، ولا بحريته، وسط الجماعة. ولما كانت النفس بطبعها تسعى للذة العاجلة، بكل سبيل، وتفر من الألم ، فإن إتجاه تربيتها، هو الحد من لذتها، وإعطائها فرصة لتجربة الألم، حتى تتغلب عليه، فلا تخاف منه. وفي هذا المضمار، مضمار تعريض النفس لألم الجوع والعطش، والحرمان من الشهوة،
يجئ دور الصوم في تحقيق الحرية .. وكل ممارسة للشهوة، دون تفكير في عواقبها، ودون قدرة على منع النفس عن ممارستها، تصبح عادة، ومن هنا جاء الصوم يحارب العادة، ويشحذ الفكر، ولهذا تجد أصحاب ” الكيف” ، أشقى الناس بالصيام، لأنهم عبيد العادة، التي تأصلت حتى أصبحت إدمان ..
ومن هنا تجئ حرمة الكيف، بكل أنواعه، وكل مستوياته، ولو كان المشروب، أو المأكول، أو المستنشق، في حد ذاته ليس حراماً، وذلك لأن الكيف يستعبد الإنسان ويمنعه من تحقيق حريته، والحرية أرفع قيم الحياة، وإنما جاءت قيمة الصوم من أنه يساعد في تحقيق الحرية !!
ولخوف لإنسان من الألم، يخاف من الإنفاق الذي يتوهم أنه يسبب له الفقر والعدم، ولمحاربة شح النفس تجئ الصدقة، ويطالب الصائم بكثرة الإنفاق، وهو حين يشعر بألم الجوع، يتصور جوع الفقراء المعدمين، فيواسيهم بالتصدق عليهم ..
ولقد رخصت الشريعة للمريض والمسافر أن يفطر في نهار رمضان. وبعض الناس لقلة علمهم لا يأخذون بالرخصة فيستهين أحدهم بالمرض أو السفر فلا يفطر .. والصحيح الأخذ بالرخصة، لأن العبادة ضعف وليست قوة، ومغالبة لله، وعدم قبول العطف منه!!
والذي يعجزه المرض الذي لا يشفى، أو كبر السن، أو صعوبة العمل الذي يرتزق منه، عن الصوم عليه أن يطعم مسكيناً، عن كل يوم من أيام الصوم ..
فإن أعجزه الفقر عن الإطعام فلا جناح عليه لأن الدين يسر وليس عسر.. قال تعالى في ذلك (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
ومن إسهام الصوم في تحقيق الحرية، شحذ الذكاء، الذي يعين على حسن التصرف، الذي يمنع الحرية من المصادرة ..
فمعلوم أن ثمن الحرية، هو حسن التصرف فيها، و أن سوء تصرف الفرد، الذي يورطه في الإعتداء على حقوق الجماعة، يصادر حريته، وفق قانون الجماعة. فالحر حرية فردية مطلقة،
إنما هو الذي يسلك فوق قوانين الجماعة .. ولهذا هو يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة كل اولئك، الا خيراً وبراً بالاحياء والأشياء ..
مثل هذا الشخص الحر، موكل بالإحسان، لو كان هنالك قانون أو لم يكن. ولما كانت الحرية بهذا المعني عزيزة المنال، قال العارف :
تمنيت على الزمان محالاً أن ترى مقلتاي طلعة حر
ولما كان الأفراد هم الذين يكونون المجتمع، فإن التداخل واضح بين الحرية في المجتمع، والحرية لدى الفرد .. فإذا كان الحكام في كل بلد، بعيدين كأفراد عن تحقيق الحرية في نفوسهم، فلا يتوقع أن يعرفوا قيمتها، ليحققوها على المحكومين ..
ولهذا تجئ مصادرتهم للحريات منطلقة من خوفهم على مناصبهم وطمعهم لما يحققوا بتلك المناصب من مكاسب دنيوية من سلطة وثروة وجاه. وخوفهم من زوال هذه النعم، ومحاسبتهم على ما ارتكبوا من جرائم ..
فإذا وضح هذا، فإن الإصلاح الذي يركز على المجتمع ويهمل الفرد، إصلاح منقوص، لا يؤدي الى النتائج المرجوه. فأنت لا يمكن ن تحقق الديمقراطية، إذا كان من يدعيها لا يعرف حقيقتها، ولا يعتقد أنها ذات علاقة بتربيته لنفسه، وتخلصه من خوفه، وطمعه ..
فمن أجل الديمقراطية الحقيقية، نحتاج الى إصلاح مناهج التعليم الحاضرة، التي تقوم على حشو أدمغة الطلاب، بمختارات من العلوم والمعارف، لا علاقة لها بتغيير نفوسهم. بل ربما كانت موجهة سياسياً، لخدمة أفكار المجموعة الحاكمة، ومصالحها، وبعيدة عن مصلحة الشعب، الذي يتحمل الإنفاق على التعليم.
كما أن إصلاح الفرد، لا يمكن أن يتم بمنهاج العبادة، من صيام، وصلاة، وزكاة، وغيرها، وهو مبتعد عن المشاكل التي يعاني منها شعبه، ظناً منه أنه لو أصلح نفسه نجا !! والحق أن المنهج الفردي في العبادة والسلوك، هو ما يعد صاحبه، ليسهم الإسهام الحقيقي، في إصلاح مجتمعه، وتوفيق الله له، إنما يجئ بمحض الفضل، وبقدر ما كان نافعاً للناس ..
ولعل من أول خطوات الإصلاح، الربط الوثيق، بين المفاهيم الدينية، وواقع الحياة ..
وذلك لأن الدين قد جاء من أجل الإنسان، وليس العكس. فإذا كان الدين مجرد منقولات عن السلف، لا تؤثر فينا، ولا تنسجم مع حياتنا، فإن التعلق بها، لا يمكن أن يكون الأمر الذي يرضى عنه الله ..
نخلص من كل ما تقدم، لعلاقة الصوم بالحرية، وربما وجدت فرصة أخرى، للحديث عن علاقة الصلاة بالحرية، وكذلك الزكاة، والحج ..
وفي الحق أن شعار التحرير الحقيقي هو لا اله الا الله، على ان تفهم كلمة التوحيد، بما يكشف عن معناها الأدق والأعمق، وهو معنى أكبر من مجرد نبذ الاصنام، وعبادة الله وحده.