شكوك واتهامات ورفض… لماذا يقاطع شباب السودان الأحزاب؟
مراقبون: فقدوا الأمل فيها جراء الإحباط والحرمان وإهمال قضاياهم وهمومهم من أجل صراعات السلطة
مراقبون: فقدوا الأمل فيها جراء الإحباط والحرمان وإهمال قضاياهم وهمومهم من أجل صراعات السلطة
شكلت القوى الشبابية والمجتمعية في السودان طوال الفترة الحراك الثوري مصدر قوة وواجهة الشارع وهي تقود الاحتجاجات وصولاً إلى إسقاط نظام عمر البشير بعد حكم دام 30 عاماً،
وكشف الحراك السياسي المستمر منذ ديسمبر (كانون الأول) 2018 عن برودة في العلاقة ونوع من الجفوة والتباعد بين الشباب والأحزاب السياسية، إذ يتهم كثير منهم الأحزاب، إلى جانب إخفاقاتها التاريخية في بناء دولة قومية حديثة، بالتفريط في قضايا الثورة وإجهاض شعاراتها، فبينما يقدمون أرواحهم في الشوارع في مواجهة القمع والآلة العسكرية،
ينشغل قادة الأحزاب باقتسام كعكة السلطة في مفاوضات الغرف المغلقة، فما سبب ذلك التباعد وتلك الفجوة ولماذا يقف الشباب بعيداً كل البعد من الأحزاب السياسية وهل من سبيل لاستعادة الثقة وردم هذه الفجوة؟
صدمة وإحباط
يرى المحلل وأستاذ العلوم السياسية أبو بكر شاكر أن الشارع الشبابي مصدوم ومحبط لأنه دفع فاتورة التغيير ومعها في الوقت نفسه ثمن فشل وإخفاق القوى السياسية في التعاطي مع الوضع الراهن بما ينسجم مع تطلعات الشباب في الحرية والسلام والعدالة، أو حتى تقديم أية معالجات لواقع البلاد المأزوم.
ويؤكد أن الأحزاب لم تعمل على تصحيح أخطائها التاريخية بالسعي إلى تجديد قواعدها الجماهيرية لتتمدد وسط القطاعات الشبابية، كما لم تعر اهتماماً كبيراً لعمليات التحديث والإصلاح والتغيير بداخلها لتتماشى وتواكب التطورات التي طرأت على البنية المجتمعية، مما تسبب في تعثرها السياسي وتوسيع الفجوة بينها والأجيال الشابة التي يتزايد وعيها على نحو مطرد.
الخيارات الصعبة
يعتقد شاكر بأن الأحزاب السودانية باتت الآن أمام خيارات صعبة وحتمية إما بالاتجاه صوب إعادة تشكيل بنيتها الفكرية والهيكلية معاً، بحيث تعمل على تطوير أدواتها وبرامجها ومحتواها تجاوباً مع تطلعات جيل الشباب في ظل المتغيرات المحلية والعالمية والتحول من النمط التقليدي الموروث إلى الانفتاح المجتمعي النوعي، أو مواجهة مصير الاضمحلال التدريجي والتلاشي المعنوي لها لأن الجيل الراهن لن يقبل أن تقوده أحزاب لا تستوعب قضاياه وليست لديها رؤية لمعالجتها.
ويشير إلى أن طبيعة تكوين ونشأة الأحزاب السودانية في شكل تحالفات دينية وعشائرية ومتصوفة مع قادة من النخب المثقفة ظلت تحمل بذور الانقسامات بداخلها، كما ظلت تتعايش في الوقت نفسه مع الانقلابات العسكرية، وكان الشباب والطلاب دائماً هم المحرك الرئيس في التصدي للديكتاتوريات العسكرية وظلت فجوة الثقة هذه تتسع وتتمدد إلى اليوم.
في المنحى ذاته يرجع أستاذ التاريخ والمدير السابق لجامعة “السودان” المفتوحة محمد أبو محمد إمام تباعد الشقة بين قطاعات الشباب والأحزاب السودانية إلى نشأة الأحزاب في بيئة مغايرة تماماً عن البيئة الحالية التي يعيشها الشباب اليوم، إذ كانت القضايا المطروحة آنذاك تتعلق بالاستقلال عن دولتي الحكم الثنائي، وانقسام الأحزاب وقتها ما بين البقاء تحت التاج المصري أو استمرار الحكم الإنجليزي، في ظل غياب رؤية واضحة حول كيف يحكم السودان.
انعدام الثقة
يرى إمام أن السودان دولة حديثة النشأة قصيرة التجربة الحزبية من بعد مؤتمر الخريجين وحتى الاستقلال، وهي فترة غير كافية لبلورة مفاهيم الديمقراطية وقيم الحوار البناء واحترام الآخر، لذلك عندما نالت البلاد استقلالها لم تستطع الاستقرار على حال، واتسمت مسيرة الحكومات الوطنية المتعاقبة بكثير من الإخفاقات والتقلبات والصراعات وجاءت الانقلابات العسكرية المتواترة لتزيد الموقف تعقيداً، معتبراً أن الأحزاب حديثة النشأة لم تكن تتمتع بالنضوج الكافي وتفتقر إلى الرؤية والمرجعية، مما جعلها تتخبط بصورة أعجزتها عن إدارة البلاد وأزماتها المتلاحقة ووقعت فريسة للآخرين ممن يتربصون بها.
ويستطرد “كل تلك السلبيات أفقدت الشباب الأمل والثقة بالأحزاب لأنها لم تراع حاجاتهم الآنية وتقدم لهم برامج عملية تستوعب طاقاتهم وتنمي قدراتهم وتقدم لهم العيش الكريم والرفاه وتغذيهم بالفكر السليم والتخطيط للمستقبل”، لافتاً إلى أن الجامعات ظلت تخرج سنوياً آلاف الطلاب، لكنهم لا يجدون فرصاً للعمل فيضطرون إلى ممارسة أعمال هامشية، أو يلجأون إلى الهجرة نحو أوروبا في مغامرات خطرة غير مأمونة العواقب.
ويضيف “صدم الشباب صدمة كبيرة في الأحزاب وفقدوا الأمل فيها بسبب ما هم فيه من إحباط وضياع وحرمان من أبسط حقوقهم كشباب، وذلك نتيجة إهمال الأحزاب لقضاياهم وهمومهم وتكريس جل اهتمامها للصراع على السلطة وفشلها في توظيف موارد البلاد الزراعية الضخمة، بينما يعمل كثير من خريجي كليات الزراعة في مجالات التدريس بمدارس المرحلة الثانوية، أو يطرقون مجالات أخرى لا تتناسب مع تخصصاتهم وقدراتهم”.
الفجوة والثورة الرقمية
لسد هذه الفجوة يقترح إمام أن تتبنى الأحزاب برامج لإعداد الشباب بشكل متكامل ومشاركته الرأي في القضايا التي تهم الوطن وأن تشجع الفرق الشبابية في الثقافة والإبداع، بما في ذلك الشابات، لدورهن الكبير في إشاعة السلام والتسامح والتراضي الوطني.
وينصح إمام الأحزاب بضرورة الاهتمام بالتربية الوطنية في المناهج الدراسية ورعاية مؤسسات تولي اهتماماً خاصاً بالشباب واستيعاب طاقاتهم وتدريبهم وإشراكهم في بناء الوطن قولاً وفعلاً وليس بالشعارات فقط، مطالباً الجامعات بالمبادرة لتقديم خطط تستوعب طاقات الشباب والشابات وتسهم في عمليات التدريب والتأهيل وتقديم البحوث والدراسات والخطط التي تهدف إلى إشاعة السلام بين أبناء الوطن الواحد.
بدوره يرى رئيس منبر الحوار بين الأحزاب عصام صديق أن الثورة الرقمية التي سهلت التداول المعرفي تتناسب عكسياً مع القولبة الحزبية، فبينما كان الشباب مهموماً بالمستقبل وإيجاد الوظائف، نجد أن قضية البطالة مثلاً تتذيل قائمة اهتمامات الأحزاب في وقت تركز على إيجاد فرص عمل لتشغيل منسوبيها لا غير.
ينادي صديق بفكرة جديدة أقرب إلى صيغة الديمقراطية الشعبية المباشرة، أطلق عليها اسم “ديمقراطية بلا أحزاب”، معتبراً أن السودان بلد غير قابل للتحزب بسبب التباينات الإثنية والعرقية والدينية والثقافية الكبيرة، وفي حاجة إلى إدارة هذا التنوع بدلاً من التفتت إلى كيانات صغيرة تباعد أكثر بين المكونات الوطنية القومية.
تضحيات وخيبة
من جانبه يعتبر الناشط السياسي الأمين عبدالمنعم أن صعود لجان المقاومة كفاعل سياسي متقدم بات شديد التأثير في الشارع يكشف عن ضعف القواعد الشبابية للأحزاب بعد فشلها في تحقيق الحل السياسي، حتى بات الشباب ضحية الإحباط بعدما تبددت آمالهم وطموحاتهم على موائد الحوار المتطاول بين الأحزاب، ومن ثم شكلت تلك اللجان بروزاً مهماً لقوى المجتمع إلى الواجهة وهي التي عمل تشبث النظام السابق بالحكم لمدة 30 عاماً على تهميشها.
ويقول إن قوة لجان المقاومة وصمودها بمثابة تعبير صارخ عن خيبة أمل الشباب في الأحزاب بعدما قدموا تضحيات هائلة ما زالت مستمرة منذ أربعة أعوام حققت فيها ثورة ديسمبر 2018 انتصاراً باهراً بإسقاط نظام البشير وعزله في 11 أبريل (نيسان) 2019، لكن الأحزاب أضاعت مكتسباتهم وبددت تضحياتهم.
على نحو متصل يعتقد عميد كلية علوم الاتصال بجامعة “المستقبل” والمستشار السياسي السابق النور عبدالله جادين بأنه لغياب رابط فكري أو أيديولوجي أو ثقافي بين جيل الشباب الحالي والأحزاب السياسية لم يتعاطوا أو يعيشوا فترة الأحزاب طوال مدة حكم نظام البشير، وتلك أولى عتبات الفجوة بين الطرفين.
الولاء العاطفي
ويلفت جادين إلى أنه في وقت تبدو الأحزاب أكثر تقليدية، إذ ما زالت تعتمد الولاء العاطفي الطائفي والقبلي وحتى الأسري، فإنها تواجه اليوم جيلاً حديثاً سلاحه التقنية والتكنولوجيا وهو بالتالي أكثر علمية وانفتاحاً على تجارب العالم، وأتاحت له الثورة الرقمية ثقافة سياسية واطلاعاً على ماهية الأحزاب ودورها لا يشبه ما يرونه في السودان، حيث لا يعلم كثير من أعضاء الأحزاب شيئاً عن برامج أحزابهم لأنهم لم ينضموا إليها على أساس موضوعي وفق رؤية الحزب وحلوله التي يطرحها لقضايا البلاد الداخلية والخارجية.
ويشير إلى أن الإيمان الكبير من جيل شباب اليوم وقناعاته بالحريات العامة يقابلهما انغلاق الأحزاب وافتقادها إلى الحرية والممارسة الديمقراطية داخلها، إذ تحتكر كثير من زعاماتها القيادة في ما يشبه التوريث المغلف، مما يصعب ردم الهوة بين الجانبين.
ويضيف “معظم شباب الثورة أميل إلى المثالية منهم إلى الواقعية، فهم يطالبون بالعدالة وهم ضد الفساد والمحسوبية، أي عكس ما يحدث داخل الأحزاب التي لا تخلو من أجندات شخصية لزعاماتها واتضح ذلك في تراجعها أخيراً عن حكومة التكنوقراط واتجاهها إلى تشكيل حكومة محاصصات حزبية.
أحزاب شبابية
ويتابع جادين “خلال الأعوام الأربعة الماضية بعد ثورة ديسمبر فهم الشباب ما هي الأحزاب وعايشوا عن قرب الممارسات الحزبية غير الرشيدة والانشقاقات والخطاب غير المنضبط وغياب زعامات قومية عقلانية وضعف التماسك والتوافق إزاء القضايا الوطنية، مما عزز النظرة السلبية تجاه الأحزاب وزاد من تحفظات الشباب في التعامل معها”.
لذلك، بحسب جادين، بدأت تظهر أحزاب وكيانات ذات صبغة شبابية محضة، بعضها انشق عن أحزاب وبعضها الآخر حديث التكوين ويحمل رؤى ثورية جديدة تسعى إلى تشكيل مستقبل ومفهوم جديدين للعمل السياسي، مشيراً إلى أن تلك الأحزاب ربما يحالفها الحظ في الصعود لأن معظم الناخبين في السودان من شريحة الشباب، مما يعزز فرصهم في الوصول إلى الحكم مستقبلاً.
وتضم الساحة السياسية السودانية أكثر من 105 أحزاب مسجلة رسمياً لدى مجلس شؤون الأحزاب وهي قابلة للزيادة مع استمرار عملية التسجيل المفتوحة وفق قانون تنظيم الأحزاب السياسية لعام 2007، وذلك بخلاف العدد المهول من التجمعات والواجهات والتنظيمات والأحزاب غير المسجلة.
إندبندنت عربية