عثمان ميرغني يكتب.. كلمة تهدم دولة
عثمان ميرغني يكتب :
كلمة تهدم دولة
الذي يقرأ التوصيات التي خرجت بها ورشة “خريطة الطريق لتجديد لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989″، والتي استمرت لأربعة أيام، يلمس الجذور الأساسية التي منها تنمو شجرة التجارب السياسية الفاشلة في السودان، أزمة قدسية المصطلح!
في السودان، تتمظهر الأزمة السياسية في الفكر الذي يبني مُسلّماته وفرضياته ثم حيثيات قراراته على قدسية المصطلح، وتتفاقم الأزمة أكثر عندما تصبح هذه المصطلحات حدًا فاصلًا يستوجب القطيعة السياسية.
قبل أسبوعين، نشرت مجلة “فورن بوليسي” الشهيرة تقريرًا رصدت فيه بعضًا من المصطلحات المتداولة عالميًا وصفتها بأنها وُلدت من رحم جائحة كورونا –العالمية- ثم حرب روسيا وأوكرانيا، ومجمل التقرير يثبت أن المصطلحات التي تُستخدم على نطاق واسع بغض النظر عن اللغة التي تنقلها هي مثل المولود، تُولد بظرفها ثم تترعرع مثل الطفل لتبلغ عنفوان انتشارها، وما تلبث مع مرور السنوات أن تهرم وتشيخ وتموت.
وتحفظ الذاكرة السياسية مصطلحات كانت في عصرها تمنح جملة كاملة كافية لتوضيح المَعنى والمَبنى، لكنها ذبلت مع الزمن وتلاشت، على سبيل المثال “حركة عدم الانحياز”؛ كانت مفهومة من حيث المعنى المقصود بها في ظل صراع المعسكرين الشرقي والغربي.
وتَكَوّنت على هُداها “منظمة دول عدم الانحياز” التي لمعت في سمائها دول، مثل: الهند في عهد الرئيس نهرو، ويوغسلافيا في عهد الريس تيتو، ومصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لكن المعسكر الشرقي تلاشى مع انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وتسيّدت العالم قطبية واحدة، فأضحى لا سبيل لكتلة “عدم الانحياز” بعد غياب إحدى القوتين.
في السودان، تتمظهر الأزمة السياسية في الفكر الذي يبني مُسلّماته وفرضياته ثم حيثيات قراراته على قدسية المصطلح، وتتفاقم الأزمة أكثر عندما تصبح هذه المصطلحات حدًا فاصلًا يستوجب القطيعة السياسية بين المكونات والأحزاب وحتى الشخصيات السياسية.
مثلًا: مصطلح “الديمقراطية” في الفهم السياسي السوداني يمنح الكلمة معنى المنتج العصري الذي يمكن الحصول عليه من أرفف “سوبرماركت” الفخامة السياسية، فتصبح الممارسة السياسية على المستوى الحزبي أو حتى جهاز الدولة السيادي محكومة بهذا الفهم، فيغير الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري (الذي حكم 1969-1985) اسم الدولة إلى “جمهورية السودان الديمقراطية”، وبذلك يعفي نفسه جملة وتفصيلًا عن أية شروط أو مواصفات تتصل بالمصطلح، فقد اشترى العلامة التجارية.
وما من حزب سياسي في السودان إلا ويضع هذه الكلمة الفخيمة في قواميسه الثورية وشعاراته إن كان في المعارضة، أو خطابه الرسمي إن كان في السلطة، وينتهي الارتباط بالمصطلح في حدود ذلك لا يتعداه لأية تفاصيل تحدق في الهياكل التنظيمية للأحزاب أو الممارسة اليومية للنظام الحاكم.
بل ولمزيد من الوجاهة النخبوية، يُخلقُ للمصطلح نَسَبٌ من أب وأم و ذرية هي التي تحدد من يجب أن يطلق عليه “ديمقراطي” أو “لا ديمقراطي”، فتنشأ الثورات الجماهيرية التي تطيح بالنظم الديكتاتورية –مثلما حدث 3 مرات في تاريخ السودان- ثم ما أن يسقط النظام فيبدأ العهد الموسوم نسبًا أبًا وأُمًا بـ”ديمقراطي” بممارسة أبشع أنواع الديكتاتورية دون أن يرمش له طرف، فالديمقراطية تتحق بالسلالة السياسية لا الممارسة والتطبيق.
هذا الوضع المختل لم يكن ليشكل خطورة أبعد من التنظير السياسي لولا أنه يؤسس بقوة جماهيرية منخدعة بالخطاب السياسي لمنهج تفكير وادارة غالبًا ينتج عنها انهيار التجربة التي تسمى “ديمقراطية” وهي في عمر الدوالي، كما حدث لثورة أكتوبر 1964، إذ لم يعمّر النظام الذي أُطلق عليه اصطلاحًا “ديمقراطي” إلا 4 سنوات، ثم تلاه النظام الذي أنجبته، انتفاضة أبريل 1985، ليسقط بعد 3 سنوات، ثم، أخيرًا، ثورة ديسمبر 2018، التي سقطت تحت حوافر الدبابات وهي في المهد بعمر سنتين فقط.
تُرفع مفردة “الديمقراطية” على الرايات الثورية خلال الهَبّات الجماهيرية ضد النظم السياسية، وتلهب المشاعر، بل تتزين بها الأناشيد الوطنية –مثال الإكتوبريات- وبعد النصر والإطاحة بالنظام الديكتاتوري تتحول “الديمقراطية” إلى جينات تُمنح وتُمنع من لافتات بينها والديمقراطية بِيِد دُونها بِيِد.
تحرير “المصطلحات” السياسية من العلامة التجارية والالتزام بالتعامل المباشر مع “الكتالوج” الذي يحدد شروطها ومواصفاتها الفنية، أمر يتجاوز التنظير الفكري إلى عمق الممارسة السياسية لتصبح قابلة وقادرة على القياس العملي.
هناك طائفة من المصطلحات في عنفوان استهلاكها الجماهيري لا تزال -في تقديري- تعطل فرصة بناء دولة حقيقية على أطلال تجارب سياسية ظلت فاشلة لـ67 سنة منذ الاستقلال، على رأس هذه المصطلحات “فترة انتقالية”!
في الأيام الماضية، شهدت قاعة الصداقة في الخرطوم (ولمن لا يعرف قاعة الصداقة هي ليست مجرد مكان للمؤتمرات فحسب، بل عنوان مستواها الفكري والسياسي) ورش عمل لمناقشة خريطة طريق لاستعادة عمل لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989، واسترداد الأموال، وانتهت 4 أيام من الجلسات المستمرة آناء النهار وزُلفًا من الليل إلى حزمة توصيات تتجلى في غالبها “أزمة المصطلح” كما الشمس في هجير النهار.
سأعرض بعض الأمثلة؛ توصية بـ (إعفاء كل قضاة المحكمة العليا)! نعم، “كُل” قضاة المحكمة العليا ضربة لازب، والعلة ليست في تصفير القضاء من القضاة، بل في كون ذلك ينطلق من منصة فكر ثوري “ديمقراطي”، ينشد تأسيس دولة “ديمقراطية”، ربما على غرار “ألمانيا الديمقراطية” قبل الوحدة مقابل “ألمانيا الغربية”!
عمل اللجنة -بحسب التوصيف السياسي والقانوني- يستهدف تفكيك نواصي القوة التي ظل يعتمد عليها النظام المطاح به جماهيريًا في الإمساك بالسلطة لـ30 سنة حسيرة، ولكن التوصيات تؤسس لما هو أكثر حسرة من ممارسة النظام السابق، فهي تجعل القرار السياسي فوق القضائي، فتمزق أهم أركان العدالة، والعدل أساس الحُكم. وتتحول عملية “التفكيك” إلى تفكيك حقيقي للدولة نفسها تحت وطأة السلطات الاستثنائية التي تبيح المحظورات بقاعدة “طُهر الغاية يبرر رِجس الوسيلة”.
ليس “مصطلح “الديمقراطية” وحده، فهناك طائفة من هذه المصطلحات في عنفوان استهلاكها الجماهيري لا تزال -في تقديري- تعطّل فرصة بناء دولة حقيقية على أطلال تجارب سياسية ظلت فاشلة لـ67 سنة منذ الاستقلال، وعلى رأس هذه المصلطحات “فترة انتقالية”! فهو توصيف يفرضه الفكر السياسي الخامل من النظر في المعنى الفني للكلمة، ويجعلها أقرب إلى “تعويذة” لا منهج تفكير وممارسة عملية.
ويستمر بذلك مسلسل الفشل ما لم تسقط قدسية “المصطلحات”.